غالب المدن الحديثة فى عالمنا العربى تشكلت خلال المراحل الكولونيالية، وذلك كمراكز للمؤسسات التعليمية والإدارية وللحكم، وللأنشطة الثقافية كالمسارح و دور السينما والجمعيات الأدبية، والأحزاب والمقاهى، والتفاعلات الاجتماعية من خلال المجال العام المفتوح نسبيا، التى تشكلت من خلال الطبقات الوسطى التى لعبت أدوارًا مهمة على صعيد السياسة، وبناء الحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال عن المستعمر، وفى مجال تشكيل الثقافة المدنية شبه الحداثية، ومن خلالها برز بعض آباء الاستقلال.
كان تخطيط المدن الحديثة مستعارًا من التقاليد المعمارية الأوروبية وطرزها، وتخطيطها العمراني، على المثال الفرنسى فى الجزائر العاصمة أساسا. بعد الاستقلال، وبعده تزايدت معدلات الهجرة من الأرياف إلى المدن والانفجار السكانى على نحو فرض على النخب السياسية الحاكمة استعارة أنماط معمارية ووظيفية من الاتحاد السوفيتى ، وأوروبا الشرقية على نحو ما حدث بالجزائر، ومصر، من خلال بناء كتل معمارية اطلق عليها المساكن الشعبية لاستيعاب العمالة بالمصانع، وظاهرة الهجرة والاستقطاب الحضرى وتمدد أنظمة السكن اللارسمى، أو العشوائيات، والبناء على الأراضى الزراعية، أو الاستيلاء على أراضى الدولة. لا شك أن ضعف فاعلية قانون الدولة أسهم فى تآكل قيم وثقافة المدينة الحديثة فى مصر وعديد من المدن العربية. خذ على سبيل المثال حالة مدينتى الخرطوم وأم درمان وغيرهما من المدن فى السودان الشقيق، منذ الاستقلال والفيضانات، والأمطار الغزيرة تأتى فى أغسطس وسبتمبر، ومع ذلك لم تقم النخب الحاكمة المدنية أو العسكرية، بالتخطيط لبنية أساسية قادرة على استيعاب فوائض المياه وتوظيفها فى الزراعة أو إنتاج الكهرباء، وذلك حتى لا تغرق المدن السودانية الكبرى.
من هنا جاءت الفيضانات والأمطار هذا العام، وحولت المدن إلى بحيرات يتم التنقل من خلال القوارب، والأخطر انهيار مائة ألف مسكن ويزيد، ما بين انهيار كلى، أو جزئى، وذلك كنتاج لإهمال الحكومات السودانية المتعاقبة منذ الاستقلال، والأخطر التسامح مع البناء العشوائى ودون ترخيص، وبلا توافر للشروط الهندسية والتخطيطية، وهو ما يؤدى سنويًا إلى مأساة إنسانية، وذلك دونما مواجهة، وهو ما أدى إلى تراجع ثقافة المدينة. ظاهرة تديين ثقافة المدن شهدتها الجزائر قبل العشرية السوداء الحرب الأهلية-، وتونس فى أواخر عهد بن على، وفى ظل صعود الدور السياسى لحركة النهضة بقيادة راشد الغنوشى، وتمدد الأيديولوجيا السلفية والإخوانية، وهو ما أثر سلبا على ثقافة المدينة الحداثية، وتدهور كفاءة المدن، والهجرة من الأرياف وارتفاع معدلات بطالة الشباب لاسيما من مناطق الوسط، والجنوب التونسى المهمشة تاريخيًا كرست عمليات تديين ثقافة المدن وفق رؤئ و تأويلات محافظة مضادة للحداثة. تديين ثقافة المدن من خلال تمدد الجماعات الإسلام ية السياسية والسلفية، فى ظل ظواهر الترييف لجهاز الدولة، والهجرة من الأرياف إلى القاهرة والإسكندرية وغيرها منذ نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضى، إلى الآن أدى إلى ترييف قيم المدنية الحداثية لمصلحة قيم ريفية محافظة دينيًا، على رأسها اللامبالاة بقانون الدولة، والسكينة العامة، والضبط الإدارى، وشيوع قيم التواكل، وعدم المسئولية، وتآكل ثقافة الاندماج الوطنى بين المواطنين ايا كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية والعرقية، وهيمنة الطقوس الدينية الشكلية كسلوكيات استعراضية، ترمى إلى بناء المكانة الاجتماعية ، بديلا عن قيم التدين الفضلى، والسلوكيات التى تكرس المصلحة العامة، وتحمى المال العام، لا انتهاكه. لا شك أن هذا النمط من السلوكيات شاع، وسيطر على الحياة فى المدن، وأدى إلى مواجهة التسلطية السياسية، بنمط مضاد من التسلطية الدينية سواء على مستوى أدوار الجماعات الإسلام ية السياسية والسلفية، أو السلوك العام فى فضاءات المدن الكبرى، التى لم تعد فضاءات للحريات العامة والفردية فى ظل دولة القانون الحديث، وإنما لقانون القوة والمكانة والنفوذ والفساد، وهو ما نراه فى تشوهات المدن العربية.
خذ على سبيل المثال الحالة اللبنانية، وانفجار بيروت ونتائجه الكارثية الكاشفة عن سطوة قانون الفساد فى الميناء البحرى، وفى مطار بيروت، وفى هيمنة الطائفية السياسية والاجتماعية، وتراجع دور بيروت كفضاء للحوارات الدينية والمذهبية، سواء بين اللبنانيين بعضهم بعضًا، أو دورها الإقليمى فى هذا المجال الحوارى المهم خاصة بين الإسلام والمسيحية الشرقية، وبين السنة والشيعة والموارنة والروم الأرثوذكس والأقباط… ألخ. تراجع الحداثة فى بيروت، وثقافة المدينة، مرجعه ضعف الوازعات القانونية الحديثة، وسيطرة الطائفية الدينية والمذهبية، فى المجال العام، فيما وراء الأشكال الحديثة لنمط الحياة فى نظام الزى، واللغات الأجنبية، والاستهلاك…إلخ. من هنا تراجعت المدن وأدوارها الحداثية فى السياسة، ونمط الحياة اليومية، وقيم دولة القانون، وانضباط البيروقراطية، وغياب كفاءتها وفسادها فى العالم العربى.
Discussion about this post