حياة الفنان حمدي أحمد تعد نموذجًا لشخصية أسطورية انطبعت على الأيام التي عاشها، ولم تتخل أبدًا عن سماتها المميزة، فهي مزيج من الشخصية المصرية التي تتراوح في حياتها، ما بين البهجة والحزن، الفكاهة والبكاء، التفاؤل والتشاؤم، والجدية والسخرية.. هو رهان أو اقتراب مما سجله الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في قصيدته في رثاء الشاعر أمل دنقل “قطار الجنوب”، التي لا أنسى منها: يا قطار الجنوب الذي باعنا في الشمال.. إذ تشعر مع سيرة حمدي أحمد أن كثيرًا من محاولات البيع والمساومة “السياسية” جرت معه طالته، ولكنه قاومها حتى اللحظة الأخيرة..
كان حمدي أحمد الجنوبي دائمًا، صاحب إطلالة مصرية، تقفز من ملامحه مهما كانت جادة، ومن حديثه مهما كان عميقًا، روح فكاهة لا يمكن لمصري أن يستغني عنها في أي وقت في الشدة كما في الرخاء.. والحياة عند حمدي أحمد كانت خيارًا واضحًا، هي الناس في البدء وفي المنتهى..
ولم أكن أعرف أنه ضاق بـ”محجوب عبدالدايم” لدرجة تفكيره في الاعتزال بسببه، إلا بعد قراءتي كتاب ” سيرة حمدي أحمد ” للكاتب الشاب السيد الحراني.. ولقد ذكرني بضيق مماثل للكاتب الكبير يحيى حقي من روايته “قنديل أم هاشم” التي حجبت إبداعات أو أعمال أخرى مهمة من أخذ حقها من القراءة والتحليل والانتشار.. هي جناية العمل الرائع أو اختزاله لبقية الأعمال..
أما شخصية محجوب عبدالدايم والتي ربطت المشاهدين بحمدي أحمد، فهي منحوتة من قلب مجتمع انتهازي فاسد في الثلاثينيات من القرن الماضي، كتبها نجيب محفوظ في روايته “القاهرة الجديدة” ووضع فيها شحنة غضب عارمة، في مجد مرحلته الواقعية (تاركًا الروايات التاريخية ليلتفت إلى الواقع المعاش)، على الظلم والرشوة والمحسوبية والفقر..
لكن دور محجوب عبد الدايم لم يسجن حمدي أحمد للأبد، هو فقط انطلاقته المبهرة في السينما.. وكما يفصل كتاب سيرته الصادر عن دار أكتب، فإنه شخصية عنيدة، صاحب مواقف ومبادئ، ملتزم وغير قابل للاستسلام.. ونعرف أنه ومع نفس المخرج صلاح أبوسيف في فيلم “البداية” أدى دور الفلاح سليم سالم الذي خدعه الديكتاتور نبيه بك.. وإذا كانت “طز” هي أشهر جملة في “القاهرة 30” فإن “أستاذ هو أنت لا مؤاخذة ديمقراطي” لم تقل عنها شهرة في “البداية”.. وما بين الدورين كان أصيلا ومؤثرا في الأحداث التي مرت بمصر من الأربعينيات حتى ثورة 30 يونيو.. وفي الأدوار الصعبة والمركبة التي لعبها في السينما والمسرح، وهو مع يوسف شاهين في “الأرض” صاحب الدور العبقري محمد أفندي عبد العال الفلاح المتعلم المتكبر على أهل قريته..
لم ينفصل عمل حمدي أحمد في الفن عن فكره ودوره السياسي، أو لم يكن حمدي أحمد فنانا أصيلا ملتزما فحسب، إنما كان كذلك في حياته السياسية، متشبثا بالمبادئ والقيم، وأكيد فقد لاقى الكثير من العنت والإزعاج بسبب هذه المواقف، وحياته السياسية امتدت في واحدة من أخصب المراحل في تاريخ مصر، منذ نهاية الأربعينيات وحتى إلى ما بعد ثورة يونيو 2013.. لم تكن نزهة.. فهو يحكي للحراني ذلك التاريخ السياسي الممتد منذ أن شارك في مظاهرات الطلبة في 1949 للتنديد بالاحتلال البريطاني وإيداعه معتقل الزيتون، حتى تحريض ابنتيه وأحفاده على المشاركة في ثورتي يناير ويونيو.. وما بينهما من انخراط في العمل السياسي حينما فاز بمقعد بولاق عن حزب العمل الاشتراكي في عام 1979.
ولا يستطيع أحد أن يجزم عما إذا كانت السياسة عطلت الفن عند حمدي أحمد أم العكس، لكنه يتذكر جائزة جامعة الدول العربية عن دوره في فيلم القاهرة 30 ، ويعتز كثيرا باسمه الحركي “سابق” وهو ينخرط في التنظيم الشيوعي، كما أنه عند عرض قضية إزالة منطقة بولاق وإعادة بنائها من جديد، في نهاية أيام الرئيس السادات وفي مجلس الشعب، قال “الرئيس لما حب يطور ميت أبوالكوم لم يهجر الأهالي” وغضب السادات ونقل عنه أنه قال: “إيه قلة الأدب دي”.. حمدي أحمد المجند في سلاح الإشارة ووقف مع زميلين حراسة ليلية على بيت الرئيس عبدالناصر (الذي كان ميس الإشارة) وفي الصباح تحدثوا عن أحلامهم بإفطار الأثرياء من جبنة وعيش توست ولبن، ووجدوا أنفسهم فجأة أمام عبدالناصر يسألهم عن حكاية الفطار، وقال لأحدهم: يعني إنت جاي على اللقمة إللي هنفطر بيها بقي، حاضر يا سيدي نبعتها لك، وأرسل لهم إفطاره.. حكى أيضا عن صدامه مع الرئيس مبارك، ورفضه الانضمام للحزب الوطني، وما جرى من إرباك ممنهج وتفتيت لحزب العمل الاشتراكي، واختراق وتمزيق للأحزاب السياسية.
و سيرة حمدي أحمد هي أحد نتاجات مشروع السيد الحراني لتوثيق سير و مذكرات المشاهير ، وأنجز فيها أعمالا عن ماجدة وسعد الدين إبراهيم وجمال البنا وغيرهم، وهو مثل كثيرين من كتاب السير يؤمن بأن لكل إنسان، أكيد ممن حققوا إنجازا قصة تروى..
Discussion about this post