بدا انفجار مرفأ بيروت الأسبوع قبل الماضى، كأنه مشهد ذروة لفيلم رعب طويل يعيشه اللبنانيون منذ سنوات يصعب حصرها، ففى ذاكرة العرب تجلى لبنان كأنه بلد منكوب بجماله، وبسبب خصائصه الفريدة، ظل هدفا للتربص من أعداء حقيقيين لا يقبلون أبداً بطابعه الخاص.
عبر سنوات جاهد المتربصون بهذا البلد لكى يفقد اختلافه وتنوعه، ويتشابه مع ما يحيط به، فكل جمال فاضح للقبح الذى يجاوره، والواضح أن جوانب من هذا القبح، كانت ناتجة عن «الداخل» وعن تفاعلات بنية اجتماعية هشة، انصهرت فى بوتقة «الهويات القاتلة» التى جعلت من الانتماء للطائفة سابقة فى بعض الأحيان على الانتماء للوطن.
لا يمكن لمن تابع توالى المشاهد التى أعقبت الانفجار، إلا أن يشعر بالخسارة الشخصية، لأن بيروت المنكوبة هى العاصمة التى انتمى إليها الجميع، من زارها أحبها ومن لم يطأ ترابها ظل مشدودا إلى بلوغها، فهى عاصمة لبلد ترك فوق قلوبنا وردة وفى أرواحنا أغنية، وفى عقولنا فكرة وفى خيالنا قصيدة وفى أيامنا ذكرى، وليس بيننا من لم يؤثر لبنان فى تكوينه الوجداني.
ليست هذه العبارات استعمالا للبلاغة القديمة، وإنما هى اعتراف بدور تاريخى تزامن مع الأدوار التى لعبتها بلادنا، فمن يفكر فى مسيرة هذا البلد من الصعب عليه أن يتفادى فكرة أن لبنان هو من دافع عن أملنا فى بلوغ “الحداثة “، وإذا أفرطنا فى “التأويل”، فإنه كان الفضاء المسرحى الذى سمح لمواهب إبداعية وفكرية تنتمى لبلدان أخرى، بتأدية الأدوار الرئيسية ومخاطبة الجمهور العربى كله.
مصر ولبنان كانا دوما محطتى انطلاق ومنصتى إطلاق “وفاترينتين للعرض”، وهناك أسباب تاريخية تفسر ذلك، لا يمكن أن نفهمها خارج وجود البلدين فى هذا الفضاء “المتوسطي”، فحين نشطت مشاريع الحداثة العربية على النمط الغربى اعتبارا من القرن التاسع عشر، كان التصور السائد هو النظر إلى البحر الأبيض المتوسط، على أنه “سرير الزوجية بين الشرق والغرب”، كما يشير المؤرخ اللبنانى الكبير فواز طرابلسى فى كتابه: “حرير وحديد من جبل لبنان إلى قناة السويس” (دار رياض الريس)، عبر استعماله لتعبير شوفالييه صاحب نظرية “النظام المتوسطي”، فعمليات التحديث التى خلقتها “العقلانية المنتصرة” فى ثورات أوروبا خلال القرن الـ18، كانت تفرض شروطها على الحياة العامة.
وفى كتابه “المدينة العربية والحداثة”، يفسر المؤرخ اللبنانى الدكتور خالد زيادة التزامن بين بيروت والإسكندرية في”قدر التغيير” ويقول: “كما كانت الإسكندرية نتاج إرادة محمد على باشا، فقد كانت بيروت نتاج إرادة ابنه إبراهيم باشا، الذى اعتنى خلال حملته على الشام بإعادة تأهيل المدن السورية، وأولى بيروت اهتماما خاصا، ومن المثير أن أول ما وجهت إليه الإدارة المصرية أنظارها هو”المرفأ” إلى جانب إقامة “الحجر الصحي”، وعهد بإدارته إلى القناصل البحرية وأدى تأهيل المرفأ إلى استئثار بيروت بأغلب التجارة مع أوروبا، بفضل حصر تصدير “حرائر لبنان ومنتوجات دمشق عبرها، وأصبح المرفأ بوابة المشرق إلى الصناعة الأوروبية”.
وحين جاء السان سيمونيون إلى المنطقة، كان دور المتوسط قد تعمق وشاعت فكرة النظر إليه على أنه “فضاء للحداثة”، ثم جاء مشروع قناة السويس ليعمق من تصورهم عن اعتبارها “رحما للحداثة المتوقعة” ومن اللافت للنظر أن بيروت كلما اتجهت لتبنى حداثتها على النمط الغربى أواخر القرن التاسع عشر، كانت “ترتد أكثر إلى الطابع العثماني”.
وعلى الرغم من ذلك فإن مفردات المجتمع انحازت للتقاليد المدنية، التى وفدت مع الحداثة الأوروبية، وارتبطت بأفكار ومؤسسات وأدوات وأنظمة حكم صاغت معها مفهوماً تجريدياً متعالياً للدولة التى لم تعد فرداً أو عصابة، وإنما إرادة وآليات للحكم وتداول السلطة وبناء المؤسسات وفصل الدين عن الدولة، وترافق ذلك مع تقدم علمى وتقني.
وفقاً لزيادة الذى كان سفيرا للبنان بالقاهرة لعدة سنوات، فقد “أدى التحديث العمرانى الذى شهدته أغلب المدن العربية التقليدية ومنها بيروت ، إلى قيام مدينة حديثة مجاورة للمدينة القديمة، التى صمدت واكتسبت رمزيتها المقاومة فى طور التحديث الثانى زمن الاستعمار، لكنها استسلمت للسلطة الوطنية التى كانت تدعى العلمنة، وترسم خطط التنمية وتراهن على قوة المدينة الجديدة، ما أدى إلى معاناة المدن القديمة التى هجرها الناس، واستسلمت لموجات الهجرة الريفية التى غيرت من معالمها، ولم تعد القسمة بين مدينة حديثة وأخرى قديمة، بل أصبحت بين المدينة من جهة وبين ضواحيها متنامية الأطراف.
فى هذا السياق لعبت بيروت دوراً حاسماً فى النهضة العربية، وقطعت شوطاً بعيداً فى الانخراط فى الحداثة، وكانت ” المدينة الاستثنائية ” ربما بسبب صغرها باعتبارها مدينة أقرب إلى البلدة، الأمر الذى ساعدها فى تخطى التقاليد الراسخة فى مدن عربية أخرى، بحيث أصبحت خلال عهد الانتداب الفرنسى واجهة غربية فى المشرق.
مما يلاحظه المفكر اللبنانى أحمد بيضون فى كتابه “فى صحبة العربية، منافذ إلى لغة وأساليب “دار الجديد 2019” أن فترة أواخر القرن التاسع عشر، عرفت ما يسميه “ريادة لبنانية” وقيادة مصرية، أما حالة الريادة اللبنانية فتجلت فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وفى أوائل القرن العشرين مع تصدر المسيحيين اللبنانيين حركة تغيير فى الشرق، وكان لها شقّ ديمقراطى يتعلق بالمساواة بين المواطنين، وشقّ قومى يتعلق بالاستقلال السياسي، أو فى بعض الصيغ المخففة التى اعتمدها مسلمون، على الأغلب، باللامركزية وبدرجة ما من الاستقلال الذاتى فى الإطار العثماني.
وكانت مصر الخاضعة فى معظم هذه المدة للاحتلال البريطانى متفلتة من السطوة العثمانية، وقابلة لتعهّد حركات من قبيل تلك التى باشرها مسيحيو المشرق وجاراهم فيها مواطنون لهم من غير المسيحيين، لأسباب مختلفة أو بصيغ مختلفة.
يشدد بيضون على أن مصر أفردت مقاعد فى صدارة حياتها الثقافية لأولئك «الشوام»، من أمثال سليم وبشارة تقلا وجرجى زيدان وفارس نمر ويعقوب صروف وفرح أنطون وشبلى شميل… ممن أنشأوا منابر وأشاعوا أفكاراً، كان لها وقع فى النهضة المصرية المزامنة أو اللاحقة، وما يؤكده بيضون أن الموقع الريادى آنذاك فى المشرق، كان للجماعة المسيحية اللبنانية وحمل أفراداً من هذه الجماعة ليبوأهم أمكنة فى صدارة الحياة الثقافية، لبلاد عريقة التقاليد هى مصر ولمجتمع ضخم، بالقياس إلى مجتمع لبنان، هو المجتمع المصري.
على قاعدة فتح أبوابها لكل تيارات التجديد وتنوع أشكال الاستجابة لتحد كبير عرفته مصر، هو تحدى النهضة كان من الطبيعى أن يتواصل عطاء اللبنانيين مع عطاء مفكرى مصر أمثال أحمد لطفى السيد ومصطفى عبدالرازق وطه حسين وعباس العقاد، وكانت المجلات والصحف التى أنشأها الشوام فى مصر هى التى بلورت أفكار هؤلاء، لكن ما ميز الحداثة المصرية اعتبارا من تلك السنوات سعيها المبكر إلى خلق إطار “مؤسسي”، كما تجلى فى الجامعة المصرية ثم جاءت ثورة 1919 لتمنح هذا السعى إطارا وطنيا جامعا.
فى مرحلة ما بين الحربين العالميتين وحتى فى المرحلة الناصرية، بدا أن مصر كما يشير بيضون قد وجدت سبلاً لتفعيل وزنها فى الثقافة العربية، وقد بدت آثار هذا التفعيل بيّنة فى الدور المرجعى أو التوجيهى، الذى أخذ يتبوأه مثقفون مصريون فى الحياة الثقافية اللبنانية.
بينما كان لبنان قد أصبح لبنان الكبير، وبات انقسامه الطائفى يتحكم شيئاً ما فى تصرّف أجنحته، حيال تيارات الفكر وصيغ الذوق المقبلة من مصر، ويبدو أن ذلك قد جرى قبل أن يخلق جمال عبدالناصر أسطورته.
أحد أبرز جوانب الحزن على ما جرى فى لبنان، يرتبط بالأيقونة التى خلقتها بيروت فى المخيلة العربية منذ الخمسينيات إلى الآن، فقد تجلت “أيقونة للحداثة” أو كما سمتها الناقدة السورية البارزة الدكتورة خالدة سعيد “يوتوبيا المدينة المثقفة” فى كتاب بهذا العنوان خصصته للحديث عن الكيفية التى صاغت عبرها بيروت “أسطورتها” كواجهة للحداثة العربية، اعتبارا من السنوات التى أعقبت استقلال لبنان التى أصبحت منذ نهاية الخمسينيات ملجأ للمثقفين الهاربين من الأيديولوجيا.
شهد لبنان بين مرحلتى الاستقلال والحرب الأهلية، قيام “مؤسسات ثقافية وفنية ذات طموحات خاصة متميزة، تبدو لنا اليوم أقرب إلى أحلام مثالية، هذه المؤسسات رسمت تطلعاتها ومساراتها ما يمكن اعتباره مشروع المدينة المثقفة، المدينة التى تنهض على الفكر والقانون والمعرفة والحياة فى الإبداع”.
حدّدت خالدة سعيد هذه المؤسسات التى انتدبت نفسها لأداء المهمة “اليوتوبية” فى خمس مؤسسات هي: الندوة اللبنانية، مشروع المطربة الكبيرة فيروز مع الأخوين رحباني، ثم مجلتى “شعر” و”مواقف” ودار الفن والأدب وكانت كلها “مبادرات فردية” نهض بها أفراد بلا أى دعم رسمى من قبل الدولة، ولا من طوائف سياسية، فهذه الأدوار الاستثنائية فى تاريخ لبنان أداها أفراد لذلك ظلت اللحظة التاريخية الفارقة فى فضاء “يوتوبيا” التى انتهت منتصف سبعينيات القرن الماضى بتمزق سياسي، واجتماعي، واقتصادى عنيف، ولم تتمكن من النجاة ب “المدينة المثقفة” من مأزق الطائفية.
الثابت أن التأثير الأعمق الذى أوجده لبنان إبداعيا، مرتبطا بقدرته على إطلاق الموجة الأهم من موجات التجديد الشعرى بعد مرحلة قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر التى كان انطلاقها مرتكزا على العواصم التاريخية الكبرى سواء فى القاهرة أم بغداد، بينما تولت بيروت “احتضان التمرد الأكبر”، ممثلا فى قصيدة النثر التى كانت العنوان الرئيس فى بيانات مجلة “شعر” التى أسسها يوسف الخال ومعه أدونيس ويوسف أبى شقرا وأنسى الحاج عام 1958.
كانت الغاية من إنشاء مجلة “شعر” تتلخص فى إفساح المجال أمام التجارب الشعرية الجديدة وتشجيعها وتوجيهها، وفى احتضان حركة الشعر الحديث فى العالم العربى، وتعزيزها بنقل نماذج مترجمة عن الشعر فى العالم، واحتضنت المجلة مواهب كبيرة أهمها محمد الماغوط، وغيرت فى ملامح الشعرية العربية المعاصر التى كانت بين قطب رومانسى صاغه نزار قبانى، وقطب متمرد يتأرجح بين شعراء التفعيلة وشعراء قصيدة النثر.
وبعد تراجع «شعر» سعت مجلة “مواقف” التى أسسها أدونيس، وهو سورى احتضنه لبنان مثلما احتضن نزار قباني، وصدرت المجلة بين عامى 1968 و 1996 تحمل الشعار: “للحرية والإبداع والتغيير”، والمثير أن مجلة لبنانية أخرى هي”الآداب” كانت قد نذرت نفسها قبل “شعر” للدفاع عن التفعيلة، وربطت حضورها بصعود القومية العربية والمد الناصرى، إلى أن جاءت هزيمة يونيو 1967 لتغير ملامح العالم العربى كله وتأخذ بيروت إلى فضاءات أخرى، كان الرفض هو عنوانها الرئيس واختلطت فيها ملامح الرفض السياسى مع الاحتجاج بالمعنى الأدبى والفنى، وتحولت بيروت إلى ساحة كبيرة للاحتجاج على فساد الأنظمة العربية كلها ومراجل لنيران كثيرة، كان وقودها نفسا يساريا جديدا تلاقى فى بعض أوجهه مع ثورات الشباب الأوروبى، وحركات اليسار الجديد فى أمريكا اللاتينية.
لم تستطع بيروت فى إيقاعها الجديد آنذاك أن تبقى بعيدا عن “المقاومة الفلسطينية” التى جاءتها بعد خروجها من معارك أيلول الأسود، وإحباطاتها من نتائج التسوية السياسية لانتصار أكتوبر 1973، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تستقطب أسماء جديدة تزيد حداثتها توهجها مثل محمود درويش الذى جاء من القاهرة وإليها نجما، ثم قدمت له بيروت “فاترينة عرض” جديدة تلائم سنوات مجد المقاومة الفلسطينية، التى التفت حوله وألزمته بتبنى قضاياها.
من أكثر المفارقات فداحة أن الشعراء الذين احتضنتهم بيروت وكانوا من بلدان أخرى مثل أدونيس ونزار قبانى ومحمود درويش وسعدى يوسف وأمجد ناصر ونورى الجراح وسيف الرحبى، كانوا هم أكثر الشعراء تفاعلا مع المدينة وأكثرهم عبر عن انتماء لها وغضب منها، وهى مفارقة لا يمكن تفاديها لأنها تفاقم من حجم الأسطورة فى النظر إلى المدينة كـ”أيقونة” ويجعلها تحظى بمكانة استثنائية بين مدن العالم العربي، ولذلك لم تتوقف وسائل الإعلام العربية فى الساعات التى أعقبت انفجار المرفأ عن استعمال أرشيف من مقولات هؤلاء، فهناك من استدعى تعبير “ست الدنيا يا بيروت ” لنزار قبانى و” بيروت خيمتنا الأخيرة” كما قال محمود درويش.
والأمر المؤكد أن المشروع الرحبانى الفيروزى، هو أكثر مشروعات الحداثة اللبنانية شعبية بحكم الجماهيرية الكبيرة التى صنعتها فيروز، فى حين ظلت المؤسسات الأخرى التى أشارت إليها خالدة سعيد ذات طابع نخبوي، وترى سعيد أن عطية فيروز الأولى حضرت فى صوتها، لكنها احتفظت بهذه العطية كهبة سماوية، ومن أجل رفعها إلى المنازل المتعالية قدمت كل شيء، فصوتها لغة خاصة تحتضن اللحن، لغة من أمواج، ومن رفيف أجنحة روحية ينطلق بها اللحن وينتشي، وينبض بالحياة مثل مدينة بيروت التى خرج منها.
Discussion about this post