ردة بعض المؤرخين الجدد في إسرائيل تكشف صهيونيتهم وتبريرهم للتطهير العرقي يفضح خطابهم
رضوى عاشور قدمت سردا فلسطينيا أمينا في “الطنطورية”
الثقافة الحقيقية هي الرهان الأصيل للحفاظ على الهوية الفلسطينية
هناك تيار إسرائيلي يصف الممارسات الصهيونية ضد الفلسطينيين بالنازية الجديدة
المقارنة بين النكبة والنازية لا تعني أن هناك مشتركًا بين الفلسطيني والإسرائيلي
إبراهيم نصر الله لم يترجم للعبرية بسبب موقفه الواضح ضد المشروع الصهيوني
بعض السرديات العربية تسبق الأحداث وتتحدث عن العيش المشترك
السرد الفلسطيني وطن بديل حتى تتحرر فلسطين
قبل أسابيع أجريت نصف حوار مع الناقدة والباحثة الأكاديمية الشابة الدكتورة ناهد راحيل واكتشفت أن الحوار لا يكتمل إلا عبر مواصلة طرح الأسئلة على نصف راحيل الآخر، أو التوأم نهلة التي تشكل مع شقيقتها ظاهرة ثقافية وإنسانية تستحق التوقف أمامها ودراستها وتأملها ونقدها.
في حوار ناهد طغى الشعر على الحوار لأنها تخصصت في درس الشعر واليوم سيطغى السرد لأن نصف راحيل الآخر قررت التخصص في دراسة السرد الروائي، ولكن هذا الحوار كسابقه سيركز عل دراسة سردية الآخر الصهيوني لأن الشقيقتين تخصصتا في الأدب العبري ، في كلية الألسن بجامعة عين شمس.
نهلة راحيل قدمت رسالتها للدكتوراه عن مقارنة بين النكبة الفلسطينية والهولوكوست اليهودي، انطلاقًا من رواية الراحلة الدكتورة رضوى عاشور الطنطورية ورواية كتاب الفراق الكبير للروائية اليهودية شوشي براينر.
واختيار قصة مجزرة الطنطورية مهم للغاية لأنها المجزرة التي كانت منسية حتى كشفها باحث إسرائيلي هو ثيودور كاتس، وأسهمت هذه المجزرة في تغير السردية التاريخية للاحتلال الصهيوني لفلسطين، حيث كانت أحد أسباب صدور كتاب الباحث الاسرائيلي المارق إيلان بابيه عن التطهير العرقي في فلسطين، والذي يعارض فيه خطاب الترانسفير أو الإبعاد.
وقدمت نهلة بعد ذلك دراسة في السرد الفلسطيني الذي يقدم أيضًا مقارنة روائية بين النكبة والهولوكوست عبر قراءة رواية كونشرتو النكبة لربعي المدهون..
وأعرف أنه ليس منهجيا المصادرة على مقولات المحاور، لكني مخترقًا تلك القاعدة الذهبية أعلن رفضي النفسي والفكري والتاريخي للخطاب الفلسطيني والعربي الذي يقارن بين الهولوكست والنكبة لأنني أرى أن الوجود الصهيوني في فلسطين خطيئة تاريخية وكفر جغرافي، ولكني سأدع الباحثة تقدم طروحاتها بحرية كاملة احترامًا لجهدها وثقة في هذا الاجتهاد الأكاديمي الذي تقدمه.
الحوار مكرس لقراءة السرد الفلسطيني والعربي حول قضية القضايا.. فلسطين، وللتذكير بأن هناك سردية فلسطينية يريد الكثيرون إرسالها إلى متاحف الذاكرة التي لا يزورها أحد، وللتأكيد على أن إعادة النظر والقراءة ليسا إعادة إنتاج القديم بل هو إنتاج وعي جديد بما قرأناه على نحو مبتسر.. ولوقف نزيف القراءات التي تمدح الظل الواطي للعدو:
المحور الأول- دراسة الأدب العبري
نهلة راحيل
– لماذا اخترتي دراسة الأدب العبري واخترتي التخصص في دراسة السرد الروائي فيما تخصصت شقيقتك في السرديات الشعرية في مجال الأدب المقارن المتكئ على دراسة العبرية؟
أصدقك القول، أنني في بداية التحاقي بكلية الألسن تنقلت في الفصل الدراسي الأول من السنة الأولى بين قسمي اللغة الإنجليزية واللغة اليابانية حتى استقريت في قسم اللغة العبرية، لأسباب “توأمية” بحتة، أعني صعوبة الانفصال عن شقيقتي بعد ارتباط- دراسي وحياتي- دام في المراحل العمرية السابقة، وكان هذا قرار استدعى سخرية جميع المحيطين- باستثناء الأسرة والأصدقاء المقربين- الذين رأوا أن التخصص في اللغة العبرية غير مجدٍ في المستقبل، وأن اللغة في حد ذاتها- كما يظنون- تُصنف في موقع “أدنى” من اللغات الأوروبية المطلوبة في سوق العمل. لكنني تمسكت بقراراي “الآمن” واخترت أن نكمل معا رحلة حياتية وعلمية، حتى تخرجي وتعييني معيدة في قسم اللغة العبرية، ثم تخصصي في دراسات النوع الأدبي والسرديات المقارنة، حيث انصرف اهتمامي البحثي في جانبين، أولهما: المقارنة بين السرود العربية/ الفلسطينية والأدبيات العبرية بهدف إعادة التساؤل حول قضايا الصراع وشرعيتها لدى الجانبين كما تمثلت إبداعيا، والثاني: دراسة نصوص الذات التي تجسد خطابا مضادا يفند مفاهيم السرديات الرسمية الكبرى ويكشف تحيزاتها.
– كيف تقيمين اهتمام العالم العربي بدراسة الأدب العبري ، ولماذا يقل اهتمامنا بهذا الأدب عن اهتمامنا بالثقافة الإستراتيجية والسياسية، هل لأننا نرفض الاعتراف بالوجود الإبداعي الإسرائيلي أم لأن العرب يرون أن أزمة فلسطين سياسية وعسكرية فقط؟
دعني أوضح لك أن دراسات الأدب العبري من الدراسات المتواجدة بشكل كبير على المستوى الأكاديمي داخل الجامعات المصرية وكذلك في عدد من البلدان العربية، ولكنها في المقابل دراسات غير رائجة على المستوى الثقافي لالتصاقها على الدوام بتهمة التطبيع، وربما كان إحجام المؤسسات الرسمية في مصر عن رعاية حركة الترجمة من الأدب العبري إلى العربية- إلا لو تمت عبر لغة وسيطة- سببا رئيسا في عدم إطلاع القارئ العربي على نتاجات “الآخر” الإسرائيلي بمختلف إيدلوجياته، وبالتالي، عدم معرفة مساراته الأدبية وغاياته الفكرية التي تمثلت في أدبياته.
– ما الجوانب الثقافية في قضية فلسطين من وجهة نظر دارسة للأدب العبري، هل يمثل هذا الأدب طبيعة المجتمع الإسرائيلي أم إنه أدب متخيل كما هو الحال مع وطن مختلق إذا استعرنا عنوان كيت ويتلام “اختلاق إسرائيل القديمة”، ما هي حدود الواقعي والمتخيل بين الواقع والرواية الإسرائيلية؟ لمن يصح أن نكشف أسرار الأدب العبري ، للنخبة أم للجماهير، ما هي الأهمية المعرفية لدراسة الأدب العبري ؟
في البداية يجب أن أشير إلى أن الأدب العبري الحديث لم يكن في فتراته المختلفة أدبا مستقلا، بل كان مرتبطا بالمتغيرات الاجتماعية والاتجاهات الفكرية في بلدان أوروبا حيث عاشت الجماعات اليهودية، ولذلك اتسم هذا الأدب بالانفتاح على الآداب الغربية الأوروبية سواء في بداية ظهوره في شرق أوروبا وغربها بنهاية القرن الثامن عشر، أو بعد انتقال مركزه الرئيس إلى فلسطين بمرحلة الهجرات اليهودية المتعاقبة قبل إقامة الدولة (1905- 1948)، واستمر الحال كذلك في الفترة التالية لتأسيس الدولة، بعد أن تبنى أغلب الأدباء بإسرائيل الثقافة الأوروبية كخطاب مركزي يحدد معظم مسارات الأدب ومظاهر التجديد به.
وقد أدى الأدب العبري دورا ملحوظا في تجسيد أوضاع اليهود في أوروبا واستغلالها كمبرر دعائي للحركة الصهيونة ولطرح إقامة الدولة كحل وحيد لما أُطلق عليه آنذاك “المسألة اليهودية”، وواصل الأدب دوره في تجسيد طبيعة المجتمع الإسرائيلي، بالأخص بعد بروز تيارات تفكيكية تدين الهيمنة الصهيونية “الإشكنازية”- أي الغربية- على الأنظمة الثقافية وتهميشها للآخر- كاليهودي الشرقي أو الأسود أو العربي الفلسطيني- ومحاولة صهره داخل ثقافة أوروبية غريبة عنه بدعوى الحفاظ على وحدة النسيج الجمعي للدولة.
وفي هذا السياق، فإن إطلاع جمهور القراء على الأدب العبري – بمختلف اتجاهاته وتنوع أشكاله- يمكن أن يسهم في تنمية الوعي المعرفي العام بشأن القضية الفلسطينة والنزاعات الداخلية “الخفية” التي تزعزع استقرار المجتمع الإسرائيلي الذي يقوم ظاهريا على قبول التعددية وتبني الديمقراطية، بشرط أن يتم ذلك عن طريق قنوات مؤسساتية ورعاية أكاديمية يمكن للمتخصصين من خلالها انتقاء ما يتم تقديمه- ولو بشكل مؤقت- للقارئ العادي سواء عبر ترجمات مدعومة بخطاب مقدماتي شارح أو عبر مقالات فكرية توجز مضامين الكتابات العبرية ورؤى أصحابها، وذلك حتى يتمرس القارئ ويصبح قادرا على أن يتبين “السم الذي قد يكون مدسوسا في العسل”، وهو ما أتاحته لي مؤخرا- بمشاركة ناهد راحيل- صفحات مجلة عالم الكتاب لتقديم مقالات تعريفية عن أحدث الاتجاهات الفكرية والأدبية بالمجتمع الإسرائيلي عبر باب “فضاء ثالث”.
أما عن القضية الفلسطينية فجوهرها بالطبع لم يعد سياسيا أو عسكريا فقط، بل يمكن القول بإن العنصر الثقافي هو ما يؤدي حاليا الدور الأهم في دعم القضية وتوثيق مراحلها على امتداد الأجيال؛ فمجابهة سياسة الإنشاء- المحو (إنشاء ماض لليهود بفلسطين مقابل محو الذاكرة الفلسطينية فعليا ورمزيا) التي تتبعها المؤسسة الصهيونية منذ إقامة الدولة لاختلاق تاريخ يخص اليهود بفلسطين أصبحت ضرورة حتمية، وليست خيارا بديلا، لترسيخ الهوية الفلسطينية وتعزيز مستقبل القضية، فالمستقبل- لا الماضي وحده- هو الرهان الأهم في الحفاظ على هوية الشعب الفلسطيني و عدل قضيته.
المحور الثاني- رضوى عاشور
نهلة راحيل
اخترت رضوى عاشور في رسالة الدكتوراة واخترتها أيضا لدراسة سيرتها الذاتية بالغة الأهمية والتي ستصدر قريبا في كتاب، فما سر رضوى عاشور معك؟
كانت معرفتي برضوى عاشور قبل مرحلة الدكتوراة قاصرة على قراءة ما تكتب من إبداعات والاستنارة بما أسمعه من آراء تصرح بها من حين لآخر، وفي خطوة الإعداد لرسالتي للدكتوراه بدأت معرفتي الشخصية بها عندما أشار عليّ أستاذي د. أحمد حماد بالصعود إلى مكتبها في قسم اللغة الإنجليزية لأطلعها على اختيار “الطنطورية” للمقارنة مع إحدى روايات الأجيال العبرية، وحينها رحبت الدكتورة رضوى كثيرا بالفكرة ودعمت مشروعي البحثي، وتناقشت معي-رغم انشغالها المستمر- في رؤية المؤرخين الجدد لتاريخ النكبة الفلسطينية وحرص العدو الصهيوني على تصدير روايته عن “النازية” للعالم الغربي ومراهنته على عامل الزمن ونسيان الأجيال الفلسطينية الناشئة لقضية النكبة.
………………………………………………………………………….
وعلى ذكر “النسيان”، فقد كان يساروني دائما شعور غريب في المرات القليلة التي كنت أهاتفها بها تلفونيا أو ألتقيها فيها بمكتبها، بأنها قطعا قد نسيت أمري وسط زخم أنشطتها البحثية والإبداعية والمجتمعية، لتفاجئني في كل مرة بالترحيب ببساطتها المعهودة: “أهلا نهلة”، فيتبدد قلقي وأشعر بالارتياح، ويبدأ الحوار. سأذكر لك حادثة بسيطة ربما توضح ما أسميته “سر رضوى معي”: عند مشاركتي بورقة بحثية في مؤتمر “رضوى عاشور، كاتبة وناقدة” الذي عُقد على شرفها في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب (22- 23 مارس 2014)، وبعد إتمام ورقتي التي كانت في جلسة تضم أساتذة كبار وأصدقاء غالين لدكتورة رضوى وكنت أصغر المشاركين سنا وخبرة، غمرتني فرحة عارمة عندما خصتني بالحديث وربتت على كتفي شاكرة وداعمة، حينئذ أحببت رضوى عاشور الإنسانة، بعد أن كنت قد أحببتها أديبة وأكاديمية، وتيقنت من تأثيرها القادم في حياتي.
فرغبت في أن أواصل معرفتي برضوى عاشور عبر قراءة سيرتها الذاتية بجزأيها الأول والثاني، وجذبني سرد تجربتها في مواجهة المرض متزامنة مع توثيق أحداث الوطن منذ اندلاع ثورة يناير 2011، فتحكي عن نفسها وأسرتها، وعن الشهداء والمصابين، دامجة الذاتي مع الجماعي في صورة متداخلة يتضافر فيها العام بالخاص. وأعددت بحثا عن النصين بعنوان: “كتابة الذات في (أثقل من رضوى) و(الصرخة)”، شاركت به في مسابقة المجلس الأعلى للثقافة فرع شباب النقاد (2016)، وكان لي شرف الفوز بالجائزة ليتأكد شعوري بأن رضوى لم تكن حكاية وانتهت، بل هي معرفة ممتدة المفعول ومتعددة الأبعاد، وفي انتظار صدور الدراسة قريبا ضمن سلسلة كتابات جديدة بمشيئة الله تعالى.
– للكبيرة رضوى اهتمامان كبيران الأول هو النقد الأدبي والإبداع، والثاني استقلال الجامعة، كيف ترين تجربة الأكاديمية رضوى عاشور وهل ظلمت الروائيه الكبيرة أم أفادتها؟
أظن أن تجربة رضوى عاشور تجربة ثرية متعددة الأركان لا يمكن تقييم كل جانب منها على حدة، حيث تتكامل الصورة بتفاعل القاصة الروائية والأستاذة الجامعية والناقدة الأدبية والناشطة الأكاديمية معا، بالإضافة إلى اعتبارها جزءًا أصيلا من التجربة الفلسطينية بزواجها من الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي وتبنيها بالتالي مسئولية توثيق الذاكرة الجمعية الفلسطينية بأعمالها. كل هذه المكونات أسهمت في بلورة شخصية فاعلة- كشخصية رضوى عاشور- على المستويين الإبداعي والمجتمعي، سواء في المشهد الثقافي المصري أو المشهد العربي في مجمله.
– هل نعيش استقلال الجامعة في البحث العلمي أم أن هناك عراقيل تقف في سبيل هذا الاستقلال، وخاصة في فروع دراسة الأدب العبري ؟
أظن أن ما نعاني منه ليس غياب الاستقلال فقط بل أيضا غياب الدعم- المعنوي والمادي- المخصص للبحوث العلمية الأكاديمية، مما يضع العقبات أمام الباحث الذي يلتزم بتوفير النفقات المالية التي يحتاجها في أبحاثه، ويصطدم كذلك ببيروقراطية العمل الإداري في المراحل المختلفة لمشاريعه البحثية، سواء في بداية الإعداد أو عند نقطة الانتهاء.
علاوة على ما سبق، فإن الباحث في الدراسات العبرية يعاني من صعوبة الحصول على مراجعة المتخصصة أو النشر في مجلات بلغة تخصصه. هذا بالنسبة للسياسات المؤسساتية، لكن يواجه الباحث في هذا المجال عراقيل أخرى تتمثل في نوع من الوصاية الأبوية لـ”شيوخ” التخصص الذين يفرضون مسارا بحثيا على الدارسين يرضي توجهاتهم الفكرية الخاصة التي لا تؤمن
بالاتجاهات الحديثة في دراسة الأدب العبري – باعتباره أدب العدو لا غير– وهو ما قد يجعل الباحثين يضطرون للارتداد عند حدود موضوعاتية تقف عند صور نمطية بائدة، كشخصية “اليهودي المرابي” أو “اليهودي العدو” كما تعكسها الأدبيات العربية أو شخصية “العربي البدائي” كما تعكسها السرديات الصهيونية، وهذا كان يناسب فترة زمنية ماضية، ولكن بعد أن اختلف التمثل الأدبي وتغيرت خريطة الموضوعات استجابة للنسق الثقافي الحداثي، كان لابد أن تتغير الدراسات النقدية والأكاديمية بالضرورة، وهو ما يحاول شباب الباحثين اتباعه على أمل إقناع أساتذتهم المُصرين على رفض هذا المنحى.
قدمت دراسة لسيرة رضوى عاشور وقدمت شقيقتك ناهد دراسة لسيرة شعرية لعفيفي مطر هل تتقاسمان الاهتمام المشترك بالقضايا، إحداكما للشعر والأخرى للرواية أم أن الأمر مصادفة؟
المصادفة واردة والتعمد محتمل. فبحكم القراءات المشتركة والتخصص الواحد (الدراسات العبرية المقارنة)، وربما أيضا المكتبة المنزلية الواحدة التي أعددناها معا، جاءت الشراكة في الاهتمام البحثي أيضا مع اختلاف الأسلوب والمعالجة. سألخص لك الأمر: في اعتقادي أن وجود المشتركات لا ينفي على أي حال وجود الاختلافات النابعة من الرؤية الداخلية والانشغال النقدي لكل منا- أنا وناهد- بمشروعه العلمي الخاص الذي يسعى إلى إكماله.
هل تصلح دراسة السيرة الذاتية كموضوع نقدي في الدراسات الأدبية، وهل العرب صادقون في سيرهم الذاتية للدرجة التي تجعل من السيرة الذاتية موضوعا دقيقا لدرس نقدي؟
تعد الكتابات الذاتية بأشكالها المتعددة- سير ذاتية ومذكرات ويوميات وغيرها- من السرديات الصغرى المفككة للتاريخ الرسمي والكاشفة لتحيزاته، ومن ثم، فهي تشغل حاليا اتجاها بحثيا محوريا في الدراسات الأدبية بوصفها تقدم رؤية ناقدة للواقع التاريخي الذي يوثقه الكاتب وتعيد تفسيره من جديد بعيدا عن سلطة السرود المركزية ومنظومتها التمثيلية، ولذلك تكمن أهمية دراسة تلك الكتابات في الإطلاع على التاريخ من أسفل- بمصطلح جيم شارب- أي كما سجله الكتّاب وفق تجاربهم الخاصة وتجارب المحيطين من الأشخاص العاديين وردود أفعالهم تجاه الأحداث التاريخية الكبرى.
والمعروف أن السيرة الذاتية نوع أدبي مراوغ يتعامل معه الدارس بنوع من الحذر، فنحن أمام كتابة أدبية تخضع لإكراهات الوعي القائم وقت التدوين، لذلك تبقى درجة الصدق في النص السير-ذاتي أمر نسبي لأسباب تتعلق بفعل الذاكرة وما يعتريها من نسيان بسبب المسافة الزمنية الفاصلة بين زمن الحدث وزمن سرده، أو لأسباب تتعلق بالذات ووضعها الحاضر أثناء الكتابة. أما السيرة الذاتية العربية فتتعرض لمزيد من الإكراهات المجتمعية- وخاصة المكتوبة بقلم المرأة- التي تشكل رقيبا غير صريح على الكاتب أثناء الكتابة، باستثناء تجارب قليلة اخترقت سقف المحرمات ولم تخضع لتلك المحاذير الرقابية.
ورغم كل تلك القيود، يظل استجلاء الأبنية النصية والتاريخية في كتابات الذات من المكونات المحورية في الدرس النقدي والبحثي في الآداب المختلفة، لكونها تتجاوز تصوير وعي الكاتب بذاته وبدروه في المجتمع إلى الكشف عن قضايا المجتمع وأنظمته المؤسساتية في مرحلة تاريخية بعينها بكل مفرداتها.
المحور الثالث- النكبة والنازية
نهلة راحيل
– لماذا اخترتِ رضوى عاشور لدراسة النكبة ولم تختاري روائيا فلسطينيا، خاصة أن تجربة كتابة رضوى ليست تجربة حياتية بل تجربة اهتمام وسردية تقوم على القراءة وجمع الشهادات، هل لأن رضوى قريبة الصلة بالهم الفلسطسيني بسبب زواجها من الشاعر الفلسطيني الكبير مريد البرغوثي؟
أتذكر عند إعداد الدراسة كانت نقطة الانطلاق الرئيسة تتصل بمفهوم الرواية الفلسطينية نفسها، فهي في الأساس رواية على صلة قوية بفلسطين وقضيتها، وبالتالي فهي ليست فقط من يكتبها كاتب فلسطيني يعيش في فلسطين، فإلى جانب غسان كنفاني وإميل حبيبي، هناك إلياس خوري ورضوى عاشور، وكذلك من يكتب عن القضية بغير العربية مثل سوزان أبوالهوى وسلمى الدباغ.
وبالطبع هذا لا ينفي خصوصية ارتباط رضوى عاشور بالقضية بحكم معايشتها للهم الفلسطيني بعد زواجها من الشاعر مريد البرغوثي وتجسيدها لفلسطين بشكل كلي في رواية الطنطورية وبشكل جزئي في نصوص سابقة مثل “أطياف” و”قطعة من أوروبا”، فالطنطورية وفق تعريف الكاتبة هي روايتها الفلسطينية التي أدركت أنها ستكتبها يوما ما؛ حيث يشكل الموضوع الفلسطيني حدثا رئيسا في تجربتها ومكونا مهما في تشكيل وعيها.
السرد والتاريخ
كتاب النكبة والنازية لنهلة راحيل
لماذا أخترتِ رواية الأجيال كنوع أدبي لدراسة الدكتوراة، ولماذا اخترت أن يكون الدرس في الأدب المقارن بين روائيتين إحداهما عربية والثانية إسرائيلية؟ ولماذا روائيتين وليس روائيين؟
كان اختيار رواية الأجيال نابعا من أنها نوع روائي لا يهتم فقط بسرد الحدث التاريخي ولكن يهتم بتأثيره على أجيال عديدة من الأسرة التي تشكل انعكاسا للمجتمع ككل، ولذلك تماشى هذا النوع مع فكرة الدراسة التي حاولت أن ترصد تأثير حدثين مفصليين في تاريخ الجماعات اليهودية والشعب الفلسطيني، أي أحداث النازي ونكبة 1948، على أجيال عديدة من أجل الوقوف على الذاكرة الجمعية الخاصة بالحدثين لدى تلك الأجيال، سواء التي عاصرتها أو التي ابتعدت عنها بفترة زمنية طويلة.
ومعروف أن القدرة على حكي التفاصيل دور أقرب لطبيعة المرأة، وكان اللافت في الطنطورية هو سرد الحكاية بتفاصيلها على لسان “رقية ” التي أصبحت نموذجا يعبر من الذاتية إلى الجماعية؛ ليعبر عن المرأة الفلسطينية ودورها في المقاومة بأشكال مختلفة. فكان انتقاء الرواية العبرية المكتوبة بقلم امرأة ضرورة لتتماشى مع الرواية العربية، من أجل الكشف عن تقاليد الكتابة النسائية في توثيقها للأحداث التاريخية. وإن كان الانفصال بين الأديبة الإسرائيلية والتجربة النازية التي تسردها جاء واضحا بعد سردها للحكاية بلسان الراوي العليم الذي لا نلمح وجوده على عكس رضوى عاشور التي اختارت أن تسردها على لسان أحد الجنود المشاركين فيها –بتعبر عبدالرحيم الكردي- أي “رقية الطنطورية”.
– البعض يرى في الروايات التاريخية الحديثة أن الرواية تظل رواية ولا يصح أن نربطها بالتاريخ حتى ولو كانت رواية تاريخية لأن ذاتية الكاتب تتدخل في السرد وتتجاوز الحقائق التاريخية وتلونها أو تختلقها بمنطق التخييل؟
تحضرني للرد مقولة جورج لوكاتش “ليس المهم في الرواية التاريخية هو سرد الأحداث التاريخية الكبرى، وإنما ابتعاث الكاتب للناس الذين يظهرون في هذه الأحداث”. فأظن أنه من العسير فك الاشتباك الحاصل بين الرواية والتاريخ، مع تأثر كل منهما بالآخر واحتفاظ كل منهما بملامحه الخاصة. فإن البنية الجيلية في هذا النوع من الروايات تكشف عما تشهده المجتمعات من تحولات سياسية واجتماعية وفكرية عبر مسيرة تاريخية طويلة تمتد من جيل إلى جيل، وهنا يتجلى دور الروائي الذي يقدم تفسيره الذاتي للتاريخ من خلال صور الحياة التي تعيشها أجيال مختلفة، فلا يرتبط هدفه بإعادة ما قاله التاريخ، بل بتجسيد ما أسقطه. ومن هذا المنطلق لا تتعارض رواية الأجيال مع الواقع التاريخي، لكنها تنظر إليه من زاوية خاصة وتلونه بالوعي الإنساني.
– لماذا لا نقارن بين النازي وإسرائيل بدلا من المقارنة بين اليهودي كضحية والعربي ضحيته أو بتعبير درويش “ضحية قتلت ضحيتها”، ما دخل الفلسطيني في جرح اليهودي التاريخي في ألمانيا وأوروبا ؟
شكّل التقاطع بين النازية اليهودية والنكبة الفلسطينية- في ظل هيمنة المشروع الصهيوني الاستعماري- موضوعا لعدة معالجات أدبية وبحثية في أوساط الكتّاب بالآونة الأخيرة، حيث زاد التطرق إلى تيمة اللقاء بين “ضحايا” النازية و”ضحايا” النكبة على أرض فلسطين، وبرز الاهتمام بتناول العلاقة بين الحدثين ومناقشتهما معا، لا بوصفهما حدثين متشابهين إنما بوصفهما حدثين صادمين ومؤسسين لمصير الجماعات اليهودية والشعب الفلسطيني على حد سواء. إلا أن هذا الاهتمام بترسيخ التقاطع بين النازية والنكبة في الوعي الإسرائيلي يعكس بوضوح استغلال القيادات الصهيونية لما وقع لليهود في بلدان أوروبا لتبرير إدارتهم الوحشية لحرب 1948 بما تعرضوا له هم أنفسهم من أحداث عنف في الماضي، وتحويل دورهم من “جلاد” إلى “ضحية” واعتبار الفلسطينين في النهاية ماهم إلا “ضحايا الضحايا”، وذلك بهدف الترويج إلى ما يسمى بـ “النكبة المشتركة”، والاعتراف المتبادل بالحدثين كسبيل وحيد- في زعمهم- لتحقيق المصالحة بين الطرفين وإرساء التعايش بينهما.
وعلى الجانب الآخر، تسعى الدراسات العربية التي تناقش الحدثين معا على ضرورة مراعاة خصوصية كل حدث من الحدثين، وعدم تحويل النكبة الفلسطينية إلى نظير لأحداث النازي سواء في الوعي العربي أو الإسرائيلي، ولكن عرضهما معا هو نوع من بحث جذور الإنكار للنكبة الفلسطينية في الوعي الإسرائيلي ورفض تأريخه لذاكرة النكبة والاعتراف بمسئوليته التاريخية تجاهها والاستعداد لإصلاح نتائجها.
أما بخصوص ضرورة المقارنة بين الإسرائيلي والنازي، أو لنقل المشابهة بينهما، نجد اتجاها فكريا وأدبيا إسرائيليا يطرح التعاطف مع النكبة الفلسطينية، ويصم الممارسات الصهيونية بأنها “نازية جديدة” ضد الفلسطينيين. سأضرب لك مثلا: المفكر الإسرائيلي “يشعياهو ليبوڤيتش” يعلن عمّا يسميه ظاهرة الـ “يهودية- نازية” ووجود يهود نازيين داخل إسرائيل، وكذلك الشاعر “شموئيل يروشليمي” يشير إلى “الإشكنازين”- أي يهود الغرب- بالكلمة المنحوتة “أشكـ – نازي” وهي نوع من المساواة بين ممارسات المؤسسة الصهيونية وقادتها الإشكناز وبين جرائم النازيين.
– لعب المكان في سردية رضوى دورا بالغ الأهمية ولكنه في كتاب الفراق الكبير لم يكن له دور حاسم، ألا يعد غياب المكانية ضعفا في السرديات الإسرائيلية التي تحاول خلق تاريخ متخيل؟
بالطبع اتضحت أهمية المكان في رواية “الطنطورية” منذ البداية، وذلك للأهمية الكبيرة التي يحظى بها المكان في الرواية الفلسطينية عموما، ومن هنا جاء وصف المكان بالرواية مرتبطا بالتأكيد على الهوية العربية لقرى فلسطين ومدنها، حيث اهتمت رضوى عاشور اهتماما بالغا بتقديم وثيقة لا يمحوها الزمن تضم أسماء القرى والمدن الفلسطينية التي تعرضت للهدم أو لتغيير الأسماء، مما يبرز خصوصية المكان في الرواية بوصفه جزءا من وجود الفلسطيني وكيانه.
بينما انحصرت تفاصيل المكان في الرواية العبرية على وصف الدول الأوروبية التي تعرض فيها الجيل الأول- الأجداد- لأحداث النازي، رغبة من الكاتبة في توثيق ما احتوته تلك الأماكن من أحداث مأساوية. وبسبب منظور الكتابة عن المكان بعد وقوع أحداث النازي، جاء وصف الموطن الأول للشخصيات بوصفه مكانا معاديا قد يحمل مشاعر الحنين لدى بعض الشخصيات ومشاعر الرفض عند بعضها الآخر. وعند محاولات مد جذور الجماعات اليهودية بفلسطين وإثبات ارتباطها بالمكان من خلال الرواية، كذلك نجد أن الكاتبة في وصفها القليل لمعالم فلسطين حرصت على نفي الوجود العربي بالمنطقة إيمانا منها بأن تغيير ذاكرة المنطقة سيجعل العالم يعترف بأن هذه الأراضي هي بالفعل جزء من إسرائيل. ومع ذلك، فقد ظهرت حالة من الانفصال الفكري والشعوري بين الأجيال التي عاشت حالة من الاغتراب عن “الأرض الجديدة” التي جمعتهم عنوة.
السردية الفلسطينية
نهلة راحيل
– لماذا اخترت رواية الطنطورية التي توثق سرديا للمجزرة المنسية كما أسماها ثيودور كاتس الباحث الإسرائيلي الذي اكتشفها في أوائل القرن الحالي وأثار ضجة باكتشافه لأنه وثق جريمة إسرائيلية كانت تنكرها؟ وهل يمكن لهذه المجزرة أن تجعلنا نصدق خطاب المؤرخين الجدد أو التيار الذي يقال إنه معاد للصهيونية مثل كاتس وإيلان بابيه علي سبيل المثال وقبلهما يوري أفنيري وإسرائيل شاحاك؟ وبعد المجزرة أصدر بابيه كتابه الشهير التطهير العرقي لفلسطين، لماذا نواصل استخدام النكبة وهو مصطلح مخفف لا يعبر عن حقيقة ما جرى وقد أشرت في كتابك إلى الإبادة الجماعية؟
حاولت مجموعة المؤرخين الجدد بإسرائيل نقد الوقائع التاريخية والسياسية وإعادة تقييم ما أنتجته الصهيونية من أحداث تاريخية ومحاولة تفسيرها من جديد، واتجهت معظم دراساتهم إلى التنقيب في الوثائق الإسرائيلية عن كل ما تم إخفاؤه من حقائق تتعلق بما تم ارتكابه من مجازر جماعية وتدمير للقرى الفلسطينية وتشريد لسكانها عام 1948، فجاءت كتابات بعضهم مثل تيودور كاتس وألون كونفينو بهدف البحث عن سبل استئصال حياة فعلية قائمة بصورة وحشية مباغتة، لتحل محلها حياة أخرى وتقام على أنقاضها دولة ناشئة.
ولكن ارتداد العديد منهم عن آرائهم مؤخرا يجعلنا لا نأمن لكل ما يوثقونه من تفاصيل. وعلى رأسهم مثلا بني موريس الذي أصدر نسخة منقحة من كتابه “مولد مشكلة اللاجئين” (2004) يصرح فيه أن التطهير العرقي وعمليات الطرد كانت من ضرورات إقامة الدولة ولم تكن من جرائم الحرب، فعلى حد تصريحه: “عندما يكون الخيار هو أن تدمر عدوك أو يدمرك، فالأفضل أن تدمره، وعندما يكون الخيار بين التطهير العرقي (للفلسطينين) وبين إبادة شعبك (أي اليهود)، فأنا أفضل التطهير العرقي، فالحاجة لإقامة الدولة عام 48 يتغلب على الظلم الذي وقع على الفلسطينيين عبر اقتلاعهم”، ولذلك يؤكد في مؤلفه العملاق “الضحايا” (2003) أن “اليهود هم الضحايا الأكبر في مسار التاريخ حتى إن قاموا بقمع الفلسطينيين الراغبين في إبادتهم”. وكذلك أراء توم ساجيف الذي يدعو في كتابه “الصهاينة الجدد” (2001) إلى ضرورة العودة إلى “الرحم الصهيوني”- وفق تسميته- خاصة بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي برهنت في ظنه على صعوبة الوصول إلى تسوية الصراع السياسي.
أما مصطلح “النكبة” فقد ارتبط بما وقع للفلسطينيين من فقدان أراضيهم وقيام الدولة على أنقاضها وشتات الملايين منهم نتيجة لذلك، وانتقل بحروفه إلى العبرية (נכּבּה) وانتشر بدلالته تلك في الربع الأخير من القرن العشرين بفضل جهود منظمة (זוכרות/ ذاكرات) التي تهدف إلى تعريف المجتمع اليهودي بإسرائيل بالنكبة وأبعادها؛ فالمصطلح، إذن، له حمولة دلالية مكثفة- وليست مخففة كما ذكرت- ترتبط بكل ما تم تدميره- ماديا ومعنويا- على أيدي القوات العسكرية الصهيونية أثناء استيطانها لفلسطين على مدار عام 1948.
– في مقال له عن كتابك “الذاكرة الفلسطينية” والذي عالجت فيه كتاب كونشرتو مصائر الهولوكوست والنكبة، قال الناقد ممدوح فراج النابي أن السردية الروائية الفلسطينية تصنع جغرافيا بديلة، هل يمكن للسرد الروائي أن يعين الذاكرة الجمعية علي الإبقاء علي فكرة الوطن، و هل يقيم جغرافيا بديلة أم يحفظ الجغرافيا الأصلية من الضياع ؟
أتفق مع ما ذكره الصديق الناقد د. ممدوح النابي في مقالته؛ ففي ظل تلك الأوضاع المأساوية نحن بحاجة ماسة إلى ترسيخ الجغرافيا الفلسطينية في ذاكرة الأجيال القادمة خاصة بعد الحرص على محوها كما حدث أخيرا مثلا من حذف فلسطين من خرائط البحث في “جوجل”.
ولذلك فما يميز السرديات الفلسطينية –بصفة خاصة- هو أن استراتيجيات كتابة المكان/ الوطن فيها تعمل دائما على رسم الجغرافيا البديلة/ جغرافيا فلسطين المستعادة في مواجهة الجغرافيا الواقعية/ جغرافيا المنفى المعاشة، فالشخصيات الروائية غير مشغولة عادة بجغرافيا الواقع إنما مشغولة بجغرافيا المتخيل الوطني الفلسطيني البعيد، وكل ما يدور في الرواية من وقائع يستدعي معنى الوطن، بصورة يمتد فيها المكان الكائن بأواصر الصلة لمكان آخر (بفلسطين).
والمقصود بالجغرافيا البديلة هنا هي جغرافيا الوطن المستعاد الذي يخلقه الكاتب في سرده الروائي كي يحفظ الجغرافيا الأصلية من الضياع عبر إعلاء سلطة المكان، غائبا أو حاضرا، من خلال استدعائه عبر المخيلة الروائية وترسيخه في ذاكرة الزمن وذهن الأجيال، فكما يقال “المقتلع من الوطن مستقر في الأزمنة الماضية”، لذلك فإنه يلوذ بالبحث عن طرائق يحاول بها عبور المسافة وتجاوزها، وهو ما يدفعه إلى الاحتماء بفعل التذكر كبديل أو مقاوم للاندثار.
– تقوم الكونشرتو على كشف العلاقة النفسيه بين النكبة والنازية، وهو مشروعك أيضا في كتابك الأول، فهل هذا نوع من مواصلة الحفر في العلاقة ؟
بالفعل جاء الكتاب الثاني “الذاكرة الجمعية الفلسطينية” ليواصل انشغالي البحثي الخاص بالكشف عن العلاقات النفسية بين الفلسطيني والإسرائيلي، وتلقي كل منهما لماضي الآخر. وقد حاولت تقصي الرؤية نفسها كذلك عند دراسة أدبيات الفلسطيني غسان كنفاني وخاصة في بحثي عن روايته القصيرة “عائد إلى حيفا” التي مسرحها الأديب الإسرائيلي بوعز جاؤون ونشرها بعنوان “العودة إلى حيفا” وعرضت كذلك على مسرح هاكاميري عام 2008، ومن خلالها حاولت أن أرصد كيف نقل المسرحي الإسرائيلي قناعاته الفكرية التي تطرح فكرة التعايش بين جانبي الصراع خلافا لنص كنفاني الذي قدم فكرة المقاومة كحل نهائي له، وذلك عند مسرحته لرواية كنفاني وإعدادها مسرحيا، فالتحولات الشكلية يصاحبها بالطبع تحولات رؤيوية مقصودة.
رواية المدهون تقوم على التجريب باستخدام حركات الكونشرتو الموسيقي، ولم يلتف أحد إلى أن الكونشرتو أو التشظي النغمي التجريبي هو توحيدي بمعنى ما؛ فاللحن الموسيقي يجمع الأنغام الطالعة من آلات مختلفة وطبقاتها المتعددة في ميلودي واحد، فهل يبرر لنا المدهون ذلك على الرغم من حزن الناي الفلسطيني وهو يروي هموم من بقوا في الكيان العنصري ليحتفظوا بالذاكرة؟
بنى المدهون روايته في قالب الكونشرتو الموسيقي المكوّن من أربع حركات تتوالف لتحكي مأساة الشتات الفلسطيني واغتراب أجيال عديدة من الفلسطينيين خارج الوطن وداخله، وتطرح أسئلة عديدة حول النكبة و”الهولوكوست” وحق العودة عبر مسار شخصياتها التي تواجه كل منها ثنائيات مختلفة داخل حركات الرواية: التهجير والعودة، الهجرة والبقاء، التذكر والنسيان، الهوية والأسرلة، ليعبّرون جميعا عن مأساة ضياع الوطن وشعور الفلسطينيين جميعا- سواء من هم في الداخل أو في الشتات- بوطأة الاحتلال الإسرائيلي، وتختتم الحركات الأربعة بسؤال لا إجابة له، حيث لا يُحسم أمر العودة النهائية إلى فلسطين ويظل النقاش مفتوحا، على المستويين: الواقعي والتخييلي.
لكن لا يمنع هذا من أن الرواية تمثل أحد الاتجاهات التي بدأت تنشط مؤخرًا، وهو مغاير عما كان رائجًا في المرويات الفلسطينية أو مرويات المقاومة التي كانت تتبني شعارات القطيعة والرفض، وإنما تيار جديد، ينساق للأيديولوجية المهيمنة – في تستر تارة وفي جهر تارة أخرى – يمهد للعيش – المشترك – في “جيتو فاضل”. ومن هذا الاتجاه، ما عبّرت عنه مرويات الحبيب السالمي “أنا وحاييم” ووليد أسامة خليل “أحببت يهودية”، ومن قبلهما خولة حمدي “في قلبي أنثى عبرية” وغيرها من المرويات، التي تسعى – في أحد توجهاتها غير المُعلنة- لخطب الودّ. وهو الأمر الذي لم يعد مقتصرًا على التيمات التي تطرقها المرويات، حيث تبدلت صورة اليهودي/اليهودية القديمة السلبية، التي كانت رائجة في الكلاسيكيات من قبيل المرابي والعاهرة وغيرها إلى صورة أكثر إنسانية.
– في دراسة الارتياب الجماعي، وهي تعليقات نقدية عن محور صورة اليهودي في الأدب العربي، تكشفين تحول نظرة العربي الروائية لليهودي في الروايات الحديثة، هل يمكن أن تكشفي لنا أسباب هذا التحول في النظر للإسرائيلي من العدو المغتصب إلى الضحية؟
أوضحت في دراسة “الارتياب الجماعي،المرويات العربية حول الشخصية اليهودية”، المنشورة في مجلة “الجديد” بشهر فبراير الماضي- كسجال على ملف الجديد الصادر بديسمبر 2019 حول تمثلات اليهودي في الرواية العربية- أن الشخصية اليهودية من الشخصيات التي أُطرِّت أدبيا في مجموعة من التصورات والمفاهيم التي رسمتها المحكيات العربية وروجت لها الكلاسكيات العالمية، فكان المنحى التنميطي لصورة تلك الشخصية- مع غياب الوعي الحقيقي بماهية الآخر- من مسببات رسوخ بعض الصفات عنها في مخيال الوعي الجمعي، والتي قد تكون بعيدة عن الحيادية أو الموضوعية.
وقد انحصرت مسببات استدعاء الشخصية اليهودية والاهتمام بتمثلها روائيا في السرديات العربية في عدة عوامل تحكم فيها طبيعة الصراع من ناحية، وطبيعية الشخصية اليهودية من ناحية أخرى، ثم حدثت تحولات واضحة في استدعائها نقلتها من الرؤية النمطية التقليدية إلى أخرى حيادية أو موضوعية، فتجسد اليهودي في صورة “الآخر” الذي يمكن التعايش معه وقبول اختلافه بعيدا عن دوائر الصراع خاصة في الأعمال التي تبحث في التاريخ المشترك بين اليهود والعرب.
أما عن تحول صورته إلى “الضحية”، فالمقصود هنا التأكيد على عنصرية المجتمع الإسرائيلي الذي مارس سياسات تهميشية تستبعد ثقافات اليهود العرب وتتوجه إليها بخطاب استعلائي؛ وتعامل اليهودي “الأسود” أيضا باعتباره مواطنا من الدرجة الثالثة؛ فأصبح اليهودي داخل إسرائيل- في كثير من الأحيان- ضحية نظامه أو مؤسساته، وهو ما تجسد سرديا في بعض الروايات العربية أو العبرية المكتوبة بأقلام يهود عرب، مثل سمير نقاش وسامي ميخائيل وشمعون بلاص وغيرهم.
– هل تم فك الارتباط بين اليهودي والإسرائيلي في العقل العربي أم لايزال الخلط قائما علي الرغم من وجود يهود رفضوا مشروع الدولة الصهيونية وبقوا في أوطانهم ومنهم شحاته هارون علي سبيل المثال؟
لنكن صريحين أكثر، أقول لك إن المجتمع العربي يعي جيدا الفارق بين يهود البلدان العربية الذين كانوا جزءا لا يتجزأ من المشهد السياسي والنسيج الاجتماعي بها، وعارض الكثير منهم الدعوات الصهيونية وفضلوا البقاء في أوطانهم الأصلية، كالمصري اليهودي “شحاتة هارون” الذي صرح بذلك في مذكراته “يهودي في القاهرة”، والمغربي اليهودي “إدموند عمران المالح” الذي اختار البقاء في المغرب في الوقت الذي كانت فيه الحركة الصهيونية تنشط لكي تشجع اليهود على الهجرة إلى فلسطين مثلما سرد في سيرته الذاتية “رسائل إلى نفسي”.
ولكن لا تنسى أن أوضاع اليهود في البلاد العربية قد تغير بعد الحروب التي خاضتها إسرائيل ضدها، بداية من حرب 48 التي عملت على إثارة موجة الغضب والكراهية تجاه اليهود العرب بكل طوائفهم واتجاهاتهم، وفي ظل الارتباك الفكري الذي أسهم في عدم التفريق بين اليهودية كديانة والصهيونية كمذهب أيديولوجي، اشتدت الدعاوى السياسية التي استغلت سوء الأوضاع في تقوية الدعم الصهيوني والمساعدة على انضمام أعداد من اليهود إلى الصهيونية، ومن ثم زيادة نسبة الاستيطان بفلسطين.
– تعملين الآن على دراسة إبراهيم نصرالله، هل قادك الأدب العبري إلى دراسة فلسطين وهل هي نوع من المقاومة للآخر؟
قدمت دراسة عن مستويات التجريب وديستوبيا الواقع في رواية “حرب الكلب الثانية” للأديب الفلسطيني إبراهيم نصر الله، الحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر” لعام 2018، والتي يسرد بها واقعا مجتمعيا مريرا بأسلوب غرائبي يفيد من مقومات الخيال العلمي لفضح الواقع وكشف تشوهاته. وما يشغلني الآن هو سؤال ملح يطاردني، ويبدو أنه لن يفارقني حتى أصل لإجابة، مفاده: قلة ترجمة منجز إبراهيم نصر الله الأدبي للعبرية، مقارنة بترجمة أقرانه أمثال غسان كنفاني وإيميل حبيبي ومحمود درويش وطه محمد علي وسميح القاسم وغيرهم.
فرغم الأهمية الكبرى التي يحظى بها الروائي الفلسطيني “إبراهيم نصر الله” لكونه أحد أبرز ممثلي القضية الفلسطينية في مشروعه السردي، فإنه لم يحظ بالترجمة إلى العبرية إلا في عملين أحدهما تم كنوع من القرصنة- على حد تعبيره- بعد ترجمة روايته القصيرة “براري الحُمى” وتضمينها في كتاب “الغرف الأخرى: ثلاث روايات فلسطينية” (2001)- ضمن سلسلة “جسور”-، مع روايتي غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” وجبرا إبراهيم جبرا “الغرف الأخرى”، والآخر تم بوساطة الروائي الفلسطيني “سلمان ناطور” وتشجيعه- ضمن سلسلة “مكتوب” (2018) المعدة لترجمة نماذج من الأدب العربي إلى العبرية.
وفي ظني أن سبب غيابه عن الترجمة قد يتلخص في تصريح الكاتب نفسه: “لا أخشى أن يُترجم أدبنا إلى العبرية شريطة أن لا يكون هناك أي اتصال مع أي صهيوني، وإذا كان كل طفل وشاب فلسطيني يخرج في المظاهرة ليقول للجندي الصهيوني الذي أمامه: هذه بلادنا، وفلسطين دارنا، فكل كتابة حقيقية، وكل جملة وكلمة وحرف نكتب، تقول لكل صهيوني: هذه بلادنا، وهذه روايتنا لتاريخنا”. وبذلك قد يكون تعمد قلة ترجمته- في الحقيقة- عقابًا على هذه التصريحات- المستفزة بالنسبة لهم – التي تُنْكر وجودهم، وهو ما يتنافى مع ما تروّجه الأيديولوجيا الصهيونية وتسعى إلى غرسه في نفوس الأجيال الجديدة.
في النهاية، أظن أن دراسة الأدب العبري يقود إلى دراسة الأدب الفلسطيني والعكس، حتى وإن لم يكن النصان حاضرين ومطروحين للمقارنة المباشرة، فوجود أحدهما يستدعي ضمنيا وجود الآخر بسبب الطبيعة الجدلية التي تجمعهما معا سواء على أرض الواقع الفعلي أو داخل الخطابات الرمزية
Discussion about this post