سرد الصحفي أيمن صالح ، رئيس قسم الاقتصاد بموقع عين الإخبارية، أحد المواقف التي جمعته مع الكاتب الصحفي الراحل أحمد العطار،فارس الصحافة المصرية ورائد الصحافة البيئية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، قائلا: في أجواء مضطربة في القاهرة خلال عام 2015، رنّ هاتفي عبر رقم غير مسجل، وبصوت يحمل طيبة صافية، ودون سابق معرفة، ودون أن يُعرّف المتصل نفسه، قال “تحقيق رائع يستحق النشر لا المصادرة.. أحسنت أيمن”.
كلمات أثلجت صدري حول تحقيق تمت مصادرة العدد المنشور به في جريدة “الوطن” وقتها، كان المتصل هو الأستاذ أحمد شوقي العطار، تبادلنا أطراف الحديث بهدوء غير معتاد بين الصحفيين الاقتصاديين، ومنذ ذلك الحين لم نلتق قط حتى انطلاق مؤتمر الأطراف للمناخ COP27، في منتجع شرم الشيخ المصري، لكن هذه المرة كنت أمثّل بوابة العين الإخبارية الإماراتية.
كان التكليف كبيرا بحجم الحدث العالمي، ولم تكن خبرتي بصحافة المناخ أو الصحافة العلمية بالقدر الكافي، لكن عليّ أن أقرأ لتقديم تغطية تليق باسم العين الإخبارية، فماذا أفعل وسط هذه الكوكبة من الصحفيين المتخصصين، وأنا لا أملك إلا لغة الأرقام كمحرر اقتصادي؟
سؤال ذابت تعقيداته فجأة حين رأيت شخصا في المنطقة الزرقاء جالسا وكأنه منصة معلومات، وهب علمه لجميع المشاركين في COP27، لم أتردد واتجهت صوب طاولته، علّني أجد عليها ضالتي في ملف معقد مثل ملف المناخ، قدمت نفسي فابتسم، سألت عن سبب الابتسامة فزادت ابتسامته، فقال ألا تعرفني؟ قلت لا فرد بهدوء، أنا العطار.
راحت ذاكرتي تبحث سريعاً عن الاسم، وعبر هاتفي، وجدت اسمين للعطار؛ أحدهما “صحفي مناخ”، فقال الرجل الهادئ، هلّا تذكرت؟.. فابتسمت أنا هذه المرة، ونسيت مع حالة الود التي احتواني بها، لماذا أنا أمامه حقا؟ فقد دار حديث شائق بيننا عن الاقتصاد والأرقام في مؤتمرات الأطراف للمناخ المعروفة اختصارا بـ”كوب”.
فطلبت من العطار دون مقدمات أن يشرح لي أكثر، حتى أستطيع تقديم تغطية فعالة متوازنة لمؤتمر الأطراف للمناخ COP27، فطلب العطار أن نلتقي مساء، وكان عند وعده حقا، التقينا في موعد يشبه الدرس الخصوصي، فالرجل الهادئ جلب أوراقه وقلمه، وبدأ في الشرح الذي استمر لأكثر من ساعتين.
هما أهم ساعتين تقريبا في مسيرتي العملية، لسببين أولهما الطريقة التي قدم بها العطار ملف المناخ والصحافة العملية في كبسولات بسيطة منحتني فرصة داخل بوابة العين الإخبارية، لرفع سقف الطموح إلى إطلاق منصة متخصصة في المناخ هي “نداء الأرض”.
والسبب الآخر هو الصديق الذي ندر وجوده في عالم الصحافة المتنافس بلا هوادة، لقد اكتسبت صديقا من طراز فريد جدا، فمنذ هاتين الساعتين لم يدّخر العطار -عطّر الله سيرته ومسيرته- جهدا في التواصل الدائم للاطمئنان كثيرا، وإعطائي آخر التطورات المتعلقة بملف المناخ، حتى جاء التعاون الرسمي بيننا داخل بوابة العين الإخبارية، قبل انطلاق مؤتمر الأطراف للمناخ COP28، وكانت بداية جديدة لم تقل في ودها عن بدايات التعارف، بل كانت بداية لعلاقة عمل من طراز فريد.
شارك العطار في انطلاق مساحة خضراء، البذرة الأولى لمنصة “نداء الأرض”، ووضع بعمله حجر الأساس لخطة طموحة، للاستعداد لمؤتمر الأطراف COP28، الذي استضافته دولة الإمارات في ديسمبر من عام 2023، وفي دبي كانت بداية لمرحلة أعمق في علاقتي بالعطار، هذه المرة التلميذ والأستاذ في مهمة مناخية، عنوانها التفرد والعمق والتأثير.
فالتفرد والعمق والتأثير ثالوث يقترن دائما باسم أحمد شوقي العطار، وشهادتي هنا قطعا ستكون مجروحة، فأنا التلميذ الذي عليه إنصاف أستاذه، وهذا أقل واجب، فعلى مدار 12 يوما في دبي، بين العمل والتسوق واختيار مأكولات جديدة ووجهات سياحية جديدة، خاصة أنها كانت الزيارة الأولى للعطار للمدينة التي لا تنام؛ كانت لنا مواقف.
مواقف العطار زيّنها دائما بالتأدب والأمل والإيجابية والحيوية والنصيحة والتضحية والابتكار والابتسامة، حتى في أقصى درجات الأزمات، وهذا أمر طبيعي في مثل هذه التغطيات.
كان العطار الشخصية المحورية القادرة على تحويل الأزمة إلى فرصة، والمحنة إلى منحة، واليأس إلى أمل، والإنسان إلى إنسانية.
في مطار دبي قال لي العطار بالعامية المصرية “نفسك في إيه بعد COP28؟”، قلت له بعد تفكير وبالعامية المصرية “ماعرفش كل اللى شاغلني التغطية تطلع كويس”، فقال الرجل بهمة: “هتطلع كويسة، بس نصيحتي لك، مش كل حاجة تاخدها على أعصابك”، وابتسم وابتسمت، وانفضت التغطية، وفي مطار القاهرة عند العودة قال العطار “مع السلامة يا مدير”، تعانقنا وذهب.
لم أكن أعلم أنه يودعني للأبد، ولم أكن أعلم أنها النهاية، فعند كل اتصال منذ انتهاء تغطية COP28 نتفق على اللقاء، ويعتذر كل مرة أحدنا، حتى عصر الخامس والعشرين من فبراير 2024، حين اتصل العطار ليطمئن ويحدد موعدا لنلتقي مع صديقنا في التغطية شعبان هدية، وكان الترتيب أن نلتقي في التاسع والعشرين من الشهر نفسه، بدعوى أن اللقاء في 29 فبراير سيكون تاريخيا، لأنه لا يتكرر إلا كل 4 سنوات مرة، وكانت المزحة الأخيرة والمهاتفة الأخيرة والابتسامة الأخيرة لـ”العطار”، لتبقى السيرة العطرة والأخلاق النادرة والإنسانية المفرطة عنوانا لفارس الصحافة العلمية وملف المناخ، “فنم هادئا مطمئنا يا صديقي العزيز، فدعاء تلاميذك لن ينقطع حتى يلاقوك، فأنت ظاهرة إنسانية، والأفكار لا تموت أبدا”.
Discussion about this post